كيف أبدأ الحديث عمّن لا تفيه الكلمات؟ كيف أصف من كانت كل خطوة من خطاه نورًا يهدي الأحرار، وصرخة في وجه الطغيان؟ هل يكفي القلم، وهل يقدر القرطاس أن يخطّ ما يليق بمقامه؟
تقف الحروف خاشعة، ويجفّ المداد حياءً حين تُذكر كربلاء، ويُذكر الحسين، ويُذكر العباس (عليه السلام).. هناك، في تلك البقعة الطاهرة، ترقد بطولةٌ لا تنام، وتُروى ملاحم خالدة لا تعرف الفناء.
تأخذنا كربلاء من ضجيج الدنيا إلى سكينة الروح، ومن اضطراب الحياة إلى طمأنينة الإيمان، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحق، ولا نور يُرى سوى نور الفداء.
العباس… روح الحسين وضياء البطولة
في عمق هذه المأساة العظيمة، يسطع نجم أبي الفضل العباس (عليه السلام)، حامل اللواء، وكافل العقيلة زينب، وقائد جيش الوفاء. هو روح الحسين، وسنده، وجدار الطمأنينة الذي احتمت به قلوب الهاشميات.
تعلّق به القلوب، وذابت فيه الأرواح حبًا وهيبة، لما رأت فيه من شجاعةٍ تُدهش، وكرمٍ يُدهش أكثر. لم يكن مجرد أخٍ، بل كان الوديع الأمين الذي تركه الإمام علي (عليه السلام) أمانةً لدى زينب، فلم يخنها لحظة.
حين افتقدته، قالت زينب وهي تتحسّس ألم الغياب:
“ضَيَّعت أخو يكسر الظهر… ساعد الله قلبك يا زينب، وقلوبنا معك.”
أيُّ قلبٍ هذا الذي يحوي كل هذا النبل؟ وأيُّ وفاءٍ هذا الذي جعله يرفض الخلود والملك في سبيل مرافقة الحسين؟ حين عرض عليه العدو القيادة والولاية، ارتجف العباس غضبًا وقال كلمته الخالدة:
“أتساومني بين الجنة والنار؟ بين النور والظلام؟ بين العلم والجهل؟”
فما كان منه إلا أن رجع إلى أخيه الحسين، يحمل بين كفّيه ضياء الموقف ووهج الإيمان، كأنهما الشمس والقمر وقد اجتمعا في لحظة قدر.
من مواقف التاريخ… حكمة بني هاشم
حين رأى أبو طالب عمّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قريشًا تضع الأذى على رأسه الشريف، لم يحتمل المشهد. سأله بحزنٍ وغضب:
من فعل هذا بك؟
فقال: كبار قريش وسادتها.
فانتفض أبو طالب غضبًا، وأمر بالقصاص منهم، ليعلّمهم أن النور لا يُطفأ بالتراب، وأن شمس محمد لا تُحجب بأيدي الظالمين.
وهكذا كانت الهاشمية نبلاً وشرفًا وموقفًا، منذ أولهم إلى آخرهم… فالمعدن واحد، والرسالة واحدة، والدم النقي لا يَقبَل الذل.
كربلاء… الدرس الخالد
كربلاء ليست أرضًا فحسب، بل جغرافيا للألم الإنساني، وتاريخ للكرامة والإباء. لم تكن السيوف وحدها تتكلّم، بل تكلمت القلوب المؤمنة، وتكلم الصمت حين عجزت الكلمات عن وصف المأساة.
الحسين (عليه السلام) لم يحمل سيفًا فقط، بل حمل رسالةً إلهية، وسار نحو الموت الواعي لا عن جهل، بل عن وعيٍ بأن هذه التضحية هي التي ستحيي الأمة.
في كربلاء، سقطت كلّ الأقنعة، وتجلّى الحق في أبهى صوره. كانت الحرية تنادي، والكرامة تصرخ، والدم الطاهر يكتب على وجه الأرض:
“أن الحياة الحقيقية لا تُقاس بالسنين، بل بالوقوف مع الحق، ولو كنت وحدك.”
من أراد أن يفهم… فلينظر إلى الحسين، من أراد أن يفهم الحرية، فليتأمل في صرخة الحسين: “هيهات منّا الذلّة!”، من أراد أن يعرف العزة، فلينظر إلى رأس الحسين مرفوعًا على الرمح، لكنه أعلى من كلّ السلاطين.
من أراد أن يعرف الوفاء الحقيقي، فلينظر إلى العباس، وهو يُقدّم كفّيه فداءً، دون أن يشتكي، فقط ليحمل الماء لأطفال كربلاء.
ليلةً الحزن ونوحُ الأرض قد عَلَنا فيها العباسُ خرَّ وسيفَهُ انحنى، ساقي العطاشي قضى ظمآنَ مُحتسبًا، والنهرُ بكى دماً والدمعُ ما سكنا عباسُ سيف انكسرْ والنهرُ ممتلئّ، لكنْ عطاشى الحمى ما ذاقَهُ أبداً.
ختامًا… كربلاء ليست ذكرى تُبكى فقط، بل مشعل هداية، ومدرسة أبدية تُعلّمنا أن الرسالة أغلى من العمر، وأن الوقوف مع الحق لا يحتاج جيوشًا، بل قلوبًا لا تساوم.
السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك مني سلام الله أبدًا ما بقيتُ وبقي الليل والنهار…
اضافةتعليق
التعليقات