كان المشهد الدرامي يتعالى على الشاشة، لكن قلبي كان يُمزقني بألم في تلك اللحظة، ولم أكن أرى سوى ذلك الفراغ الذي يعصف بأعماقي، والصمت الذي يصرخ في روحي، فتساءلتُ والدموع تحرق وجنتي: لماذا هذه الوحشة وسط الزحام؟ ولماذا يعتصرني الألم وأنا بين أحبّائي؟
وجثوتُ على ركبتي، وأكملتُ من أعماق روحي: "يا الله، كم أنا متعبة... كم أنا ضائعة".
وفجأة، كغيمة ممطرة على أرض قاحلة، نزلت السكينة، وانكشف الغبار عن قلبي، ورأيت الحقيقة التي طالما غابت عني، فلم يكن ما أبحث عنه في الخارج، بل كان كنزًا مدفونًا في الداخل، كان "اليقين".
وتذكّرتُ أيامًا كنتُ أصرخ فيها: "لماذا أنا؟" حين فقدتُ عزيزًا، وحين تحطّم حلم وظيفتي، وحتى حين كُسر قدحي المفضّل، كنتُ أرى العالم من خلال جرحي، والظلام في كل مكان.
وفي لحظات السكينة، راودتني كلمات الإمام الصادق، لامعة في ظلامي: "اليقين يوصل العبد إلى كل حالٍ سنيّ ومقامٍ عجيب".
فبدأت أسأل: هل يمكن أن يكون ألمي طريقًا إلى الله؟ أو هل يمكن أن تكون دموعي وسيلة للقائه؟
وكانت الإجابة إدراكي: كم كانت الحياة ثقيلة عندما كنتُ أتعلّق بالأسباب وحدها، وأظن السعادة في أشياء ستزول، وأشخاص قد يرحلون، وأموال ستنفد.
كنتُ كمن يبني قصرًا على موج البحر، وكل موجة تدمر ما بنيتُ، وكل نسيم يهز أركان وجودي، حتى فهمتُ معنى: "لو زاد يقينه لمشى في الهواء".
فهمتُ أن المشي على الماء ليس معجزة حصرية، بل هو حالة يقين، وأننا جميعًا يمكننا أن نمشي فوق همومنا إذا امتلأت قلوبنا باليقين.
الشعاع السابع: الإيمان في اليقين
إنّ اليقين ليس مجرد كلمة نردّدها، بل هو ذلك الشعور الذي يغمرك عندما تسقط على ركبتيك في جوف الليل، وتهمس بكل وجودك: "يا الله"، فتجد أن كل شيء في الكون يجيبك: "لبيك".
إنه، ببساطة، أن ترى يد الله في كل شيء، حتى في جرحك الدامي ودمعتك الحارقة، أن تعيش وأنت تعلم أن كل ما يحدث هو عين العدل، وأن كل ألم هو رسالة حب.
هو ذلك الوصف الذي سلط الإمام (عليه السلام) عليه أشعة من بلاغته، فوصف حامليه في خطبة المتقين:
"فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوّة في دينٍ، وحزمًا في لينٍ، وإيمانًا في يقينٍ".
وهذا برهان على أن اليقين من أفضل مراتب الإنسان، وهو غاية العبادة، كما ورد في قوله تعالى:
.وببساطة، عزيزي القارئ، تخيّل معي شجرة ضاربة الجذور في الأرض، لا تؤثر فيها العواصف ولا تزعزعها الرياح، جذورها ممتدة بعمق في التربة، هذه الشجرة هي صورة "اليقين" في قلب المؤمن.
ولكن الإمام عليّ لا يكتفي بأن يكون لديك يقين، بل يريد ليقينك أن يصل إلى درجة "الإيمان"، حتى يكتمل اليقين وتثمر الشجرة.
ولو بحثنا عمّا هو "الإيمان"، لوجدنا أنه التأكيد على اليقين؛ ويعني أن اليقين لم يعد مجرد فكرة أو شعور عابر، بل أصبح مسكنًا للنفس، وموطنًا للقلب، وحقيقة راسخة.
أي إنه أصبح اليقين كالتنفس، لا تحتاج إلى أن تذكّر نفسك به، لأنه أصبح جزءًا من كيانك.
وببساطة أكثر: هو كمثل الكثيرين الذين يعلمون أن الرزق بيد الله، ولكن صاحب "الإيمان في اليقين" يعيش هذه الحقيقة، قلبه مطمئن لا يقلق على رزقه، لأنه يعلم أن الله قد تكفّل به، فتجده ساكنًا حتى في أزماته المادية.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الكثيرون من الانهيار في زمن الاضطراب، وتملأهم الأسئلة، وفي مقدّمتها: "لماذا أنا؟"
تجد أن يقين صاحب "الإيمان في اليقين" المستقر يجعله يقول: "هذا قضاء الله، وهو خير، حتى لو بدا غير ذلك".
تجده شاكرًا في الرخاء، صابرًا في البلاء، بنفس مطمئنة. وبينما يزداد خوف الناس غالبًا من المستقبل المجهول، أو من فقدان الصحة، أو من سطوة الآخرين، يبرز من كان الله يقينه المستقر، شجاعًا في قول الحق، مقدامًا في فعل الخير، لأن قلبه عامر بالثقة بالله، وخوفه منه وحده.
وعندما تختلف الآراء وتتشعب الطرق، فإن نور اليقين الراسخ في القلب يهدي صاحبه إلى الحق، فهو لا يتخبّط، لأن لديه بوصلة داخلية ثابتة.
وهكذا، بكل بساطة، يرسم الإمام عليّ عليه السلام لنا خريطة اليقين؛ فهو لا يريدنا أن نكون مجرّد حاملين لليقين، بل أن نؤمن به إيمانًا يجعل منه مسكنًا لأرواحنا؛ أي أن يتحول إيماننا بالقدر، والخير، والعدل الإلهي، من شعارات نردّدها، إلى وطن روحي نعيش فيه.
وأن نصل إلى تلك الحالة التي يصبح فيها اليقين سجيّة لا تكلّف فيها، وسكينة لا تزعزعها عواصف الحياة.
وهذه هي الذروة الحقيقية لليقين التي سمّاها الإمام عليّ (عليه السلام) بـ "الإيمان في اليقين"، حيث يصبح الإيمان بالغيب كرؤية العين، والثقة بالله كالهواء الذي تتنفسه.
أما أنا، حين وقفتُ على أطلال خطبته (عليه السلام)، أدركتُ حلاوة اليقين بعد أن عرفتُ طريقين:
طريق الأسباب وحدها، فوجدته طريقًا مسدودًا، وطريق الأسباب مع المسبّب، وأن لله تعالى في كل أمر حكمة لا ندركها، فوجدته طريق النجاة.
لذلك، لم أعد أبحث عن السعادة حيث فقدتُها، بل أبحث عنها حيث تركها الله لي، وأنا كلي يقين أنها الأفضل، ومؤمنة أن سيري على الماء طوال الوقت كانت يد الله التي تحملني حينها.
عندها فقط، تحوّلت آلامي إلى أنغام، ودموعي إلى أنهار، ووحدتي إلى جنّة.
فاللهم اجعلنا من الذين إذا أحببتهم ابتليتهم، وإذا ابتليتهم صبروا، وإذا صبروا أتقنتَ صناعتك في قلوبهم، حتى يصلوا إلى شاطئ اليقين، وهذا ما حدث معي... واليقين.
أما أنت، عزيزي القارئ، فما هي روايتك مع اليقين؟
اضافةتعليق
التعليقات