في بيتٍ بسيطٍ من الطين وجذوعِ النخل، وفي زاويةٍ معيّنةٍ كانت هناك مكاتلُ صغيرةٌ صُنِعت بأنقى يدَينِ من خوصِ النخل، زَيَّنَت جانبًا من البيت، فيها شيءٌ من التمر والطحين، ويقابلها جَرَّةُ ماءٍ صغيرةٌ وصحونٌ فخارية.
أمّا ساحةُ البيت فكانت هناك نخلةٌ تَحنو على البيت بجذعٍ مائل، وكأنّها تحاول أن تنحنيَ تقديرًا منها لهذا البيتِ وبساطتِه وحُرمته.
وفي الخارج وأمام الباحة بابٌ محترق، بابٌ خشبيٌّ محترق، وبقايا حطبٍ محترقة، كلُّ شيءٍ حول الباب كان أسودَ اللون.
يبدو أنّ حريقًا نشب على الباب فقط، أو ربّما أحدُهم حرَقَ البابَ، وإنْ كانت في هذا الدار سيّدةُ النساء، حرَقَ البابَ متجاوزًا كلَّ الحدودِ والقِيَمِ والمبادئِ.
ولكن ماذا حدث بعد هذا الحريق؟
ماذا حدث للسيّدةِ العظيمةِ في داخل هذا الدار؟
فقدت جنينَها، وبعد؟ كُسِر أحدُ أضلاعِها؟ وبعد؟ استُشهِدت، وطلبت أن يُخفى القبرُ الشريف إلى الأبد.
يا لسوادِ وجهِ القومِ منك يا رسولَ الله… وعادت وديعةُ الرسولِ إليه وهي مثقلةٌ بالحزن والجراح…
ماذا بعد؟
هل بقي البابُ أسودَ، يُذكّر القومَ كلَّ حينٍ بتلك الحادثة؟
من أزال الرمادَ والحطبَ عن باب الدار؟ من؟
هل بقي البيتُ جميلًا كما كانت هي تُزيّنه بطَلّتِها البهيّة وجمالِها ونورِها وتلك العفّة؟
أم أنّه انهدم بعدها؟
ماذا عن تلك الفتاة الصغيرة، أميرةِ البيت وعنوانِ بهجته؟ هل كانت قادرةً على تحمّل فراقِ والدتِها؟
فهي معها أينما ذهبت، تركض خلفها كحمامة، تُعاونها في أمورِ المنزل، تتعلّم منها، تأخذ من ينبوعِ النبوّةِ والإمامةِ درسًا كلَّ يوم.
ماذا فعلت تلك الصغيرة بعد أن رحلت سيّدةُ المنزل؟ ماذا كان شعورُها؟ كيف أصبح الليلُ دونَما همساتِ تسبيحِ السيّدة؟
وهل بات للفجرِ ذلك المعنى وقد حُرِم القومُ من دعائِها وتهليلِها لهم؟
فهي تقول: «في دعائي الجارُ قبلَ الدار».
كيف أصبحت زينبُ بعد حرق الباب؟
بالأمس مرّت أمامي كلُّ هذه الأسئلة وأنا أقف أنظر إلى ركنٍ وُضِع في حضرة أبي الفضل العبّاس، يُحاكي بيتَ السيّدة.
كانت العتبةُ العباسيةُ تضعه في الأيّام الفاطمية، ركنٌ يحمل من الوجع الكثير، ووُضِع عند أبي الفضل لِما له من شأنٍ كبيرٍ عند السيّدة.
وقفتُ أمام هذا الركن لبضع دقائق، تمثيلٌ لبيتِ السيّدة الزهراء، سيّدةِ نساءِ العالمين.
كان البابُ محترقًا، ذلك البابُ ومنظره أوجع قلبي، لم أستطع البقاء أكثر، كان موجِعًا لكلّ من يرى في السيّدة أمًّا له.
منظرٌ لا يجب أن يُحرّك وجدانَنا فحسب، بل هو تذكيرٌ بمشهدِ الظلمِ الذي رفضتْه السيّدةُ فاطمةُ بل وحاربته.
إنّه مسؤوليتُنا اليوم كنساءٍ في هذا المجتمع، وأمام هذا الباب المحترق: هل نزيده سوادًا، أم نمسح ذلك الرمادَ الأسودَ عن بابها المبارك؟
نحن معشرَ النساءِ، من أمّهاتٍ وزوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ، كم مرّةٍ سألنا أنفسَنا: ماذا تريد السيّدةُ فاطمةُ منّا؟
وكيف لنا أن نسلكَ مَسلَكَ السيّدة في البيتِ والعمل؟ هل نتعامل مع الأمورِ كما تُحبّ هي وتريدُ منّا؟
ما هو دورُنا في مجتمعٍ مليءٍ بالصورِ المزيّفةِ والأحاديثِ الفارغةِ التي تَسحب المرأةَ للأسفل باسم التحرّر والحرية، غيرَ مكترثينَ بكينونةِ المرأة، وغيرَ محافظينَ عليها كامرأةٍ احترمها الإسلامُ وأعلى شأنَها؟
هل نحن اليومَ مُدرِكون مسؤوليةَ المرأةِ حقًّا؟ هل نعرف مسؤوليتَنا الحقيقية في العلمِ والعمل؟
هل نحن من يصنع الأدواتِ الحقيقيةَ لمسؤولية المرأةِ في العلم، والعمل، والدين، والقرآن، والبيت؟
هل نُراجع أنفسَنا كنساءٍ في هذه الأيام: ماذا يجب أن تكون مسؤوليتُنا في الأيّام الفاطمية من كلّ عام؟
كيف سنُكمل مسيرةَ السيّدة في الدفاعِ عن الدين، وعن المذهب، وعن هويّتِنا كنساء؟
وأوّلُ هويةٍ تُعرَف بها المرأةُ المسلمة هي الالتزامُ بالحجاب.
هل حجابي اليوم يتماشى مع ما تريده السيّدةُ منّا؟ ماذا عن علمي وعملي وتربيةِ أبنائي وتعاملِي مع الناس؟ هل يتوافق مع قوانينِ السيّدة؟
هل أنا اليوم متعبةٌ ومشتّتةٌ إلى الحدّ الذي يمنعني من التفكّر والتدبّر والمعرفة؟
وماذا عن النساء اللاتي يَعِشنَ في زاويةٍ معزولةٍ لا يعرفنَ حتى القراءةَ والكتابة؟
ما هو دورُنا تجاه هؤلاء النسوة؟ كيف لنا أن نفتحَ سِتارَ العلمِ ونورَه عليهنّ؟
لأنني مؤمنةٌ تمامًا أننا بنورِ العلم سنضع أيدينا على العِلَل، ونتخلّص من كثيرٍ ممّن يستغلّ جهلَ هؤلاء النسوة وظلامَ عقولِهنّ.
مؤمنةٌ تمامًا أننا بالزهراءِ نزدهر، وننمو، ونُشرِق، طالما نحن ممسكينَ بيديها المباركتين ما حيينا ….
اضافةتعليق
التعليقات